البنيوية فلسفة أم منهج
زعم الدكتور كمال أبو ديب أن البنيوية ليست فلسفة لكنها طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود، وعلى هذا الأساس اعتمد الحداثيون في الدفاع عنها كـالغذامي والسريحي، وتصريحهما في أكثر من مناسبة بانتهاج هذا المنهج يجعلنا نبين حقيقة هذا الادعاء.
جاء في "مجلة فصول" ذات الاتجاه الحداثي المعروف ''يتفق السيد زكريا إبراهيم مع السيد ياسين وغيره -في النظر إلى- البنيوية على أنها تنطوي على موقف عقائدي أو تمثل منظوراً خاصاً''.
هذا والدكتور زكريا إبراهيم نصراني من أكبر المتخصصين في هذا المجال، وله كتابه المتعمق "مشكلة البنية" وقد تحدث فيه عن ''انـزلاق البنيوية من مجال المنهجية العلمية إلى مجال الأيدلوجيا، وآية ذلك أن المنظور الفكري الذي انطوت عليه هذه البنيوية الجديدة قد جاء مؤكداً للدعوى القائلة: بأن في تضاعيف هذا الاتجاه الفلسفي الجديد إنكاراً لقدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص، ورفضاً لكل نـزعة إنسانية، ومن ثم فقد صار البعض يؤكد أن النداء الخاص الذي اتحدت عنده كلمة البنيوية هو إعلان موت الإنسان''
هذا مع أننا نسأل أبا ديب هذا: ماهي الفلسفة إن لم تكن طريقة في الرؤية، ومنهجاً في معاينة الوجود؟!
ويقول "جان ماري بنو" في كتابه "الثورة البنيوية : "إذا كان الوجوديون قد تخلصوا من "الله"، فقد نجح سوسيور في التخلص من الإنسان... وقال: كان الإنسان خالق المعنى ومصدره الحي، ولكنه اختفى تماماً في ظل العلم الجديد الذي جعل المعنى حصيلة مجموعة من العلاقات اللغوية البنيوية والسيميوليجية التي تفرز العلاقات وتحدد المعاني، وفي ظل هذا التصور أصبح الإنسان إفرازاً لغوياً بدلاً منه صانعاً للغة'' .
إنها جبرية من نوع غريب لم تعرف البشرية له نظيراً من قبل!!
وفي مقال فصول: ''وربما كان أكبر دليل على أن البنيوية قد اكتسبت طابع المنظور الفكري أو الموقف العقائدي، وهو هجوم بعض البنيويين وعلى رأسهم "ليفي شتراوس" على "سارتر" والوجوديين، ودحض آرائهم في التقدم والمبادئ التاريخية، ويتجلى هذا الطابع العقائدي -أيضاً- في محاولة بعضهم وعلى رأسهم "التوسير" إعطاء تفسير جديد للماركسية، بحيث حولها من منهج عمل ثوري يرتكز على الإنسان إلى نظرية رجعية تؤكد حتمية سيادة نظام لا سلطان للإنسان عليه... إلخ''.
كما أن الدكتور صلاح فضل عقد مبحثاً بعنوان: ''محاولة عقد زواج بين البنائية والماركسية".
وهنا نشير إلى ما تنضح به كتابات السريحي والغذامي ومن لف لفهم من إضفاء القوة المطلقة للغة وسلب لإرادة الإنسان -خاصة الشاعر- حتى من نسبة وضع لفظة مكان أخرى!! فأي ربوبية قهرية يريد هؤلاء أن يجعلوها للغة!!
على أن مما يؤكد أن البنيوية فلسفة ذات تطبيقات ثورية واقعية؛ ارتباطها ببعض الأحداث السياسية مما كان سبباً في ظهور نقيضها "التفكيكية"، ذلك أن''التفكيكية هي رد فعل لانهيار البنيوية في فرنسا بعد أحداث عام (1968م)، فهي إفراز طبيعي لحالة الإحباط والكفر بالنظريات الشاملة المتماسكة، ومنها الماركسية التي اجتاحت فرنسا في تلك الآونة.
لقد قامت البنيوية على فكرة سيادة منطق البنية المتماسكة فوق الإنسان والمتغيرات، وكانت صدمتها شديدة حيث جعلتها أحداث الثورة الطلابية في أوروبا بصفة عامة في أواخر السبعينيات، وفي فرنسا بصفة خاصة في عام (1968م) تدرك الدلالات الحزينة لنظريتها التي أثبتت الأيام صحتها -أي: حين أثبتت البنية السياسية في فرنسا قوتها أمام أي معارضة- وأصبحت فكرة البنية عدواً لدوداً للمفكرين، وارتد الكثيرون عن البنيوية كما فعل الناقد رولات بارت في كتاباته الأخيرة، واتجه الكثيرون إلى الهجوم على جميع الأنظمة والنظريات العقائدية التي تخنق الفرد''.
وهذا النص الصريح يذكرنا بما حصل من انهيار فكرة القومية العربية بعد هزيمة عام (1967م)، والسؤال هو مالذي ينهار بتأثير الأحداث السياسية، أهي المناهج المجردة أم الفلسفات التي قامت عليها تلك السياسات؟!
فإن أصر القوم على تسميتها مناهج لا فلسفات فلن نجادل في مجرد الألفاظ، فالمنهج الذي تقوم عليه أنظمة شمولية تارة وتسقط تارة هو "عقيدة".. والسلام.
ومن هنا كان السؤال الذي جعله الدكتور صلاح فضل عنواناً لمبحث خاص: ''هل البنائية تعبير عن فشل اليسار؟''.